الكاتب والباحث السياسي جواد سلهب
في مثل هذا اليوم، لا نستحضر فقط أسماء الشهداء من قناة الميادين الذين ارتقوا في ميادين الحقيقة، بل نعيد تأكيد معنى الشهادة في الإعلام المقاوم، ومعنى أن تكون الكاميرا في مواجهة المدفع، والميكروفون في مواجهة آلة التضليل الكبرى التي تقودها الإمبراطوريات الإعلامية المرتبطة بالمال والسلاح.
منذ انطلاقتها، كانت الميادين مشروعًا تحرريًا يتجاوز الجغرافيا، صوتًا للأمة لا لسلطة، ومنبرًا للمستضعفين لا للمتسلطين. لذلك، لم يكن غريبًا أن يستهدفها العدوان، كما استهدف قبلها كل من حمل الكلمة الحرة سلاحًا في وجه الاحتلال والهيمنة. فشهداؤها، من لبنان إلى فلسطين وسوريا واليمن، لم يكونوا مجرّد ناقلين للأخبار، بل كانوا شركاء في صناعة الوعي المقاوم، في معركة الرواية ضد التزوير، وفي تثبيت صورة الحقيقة في وجه الإعلام المضلّل.
لقد أدرك العدو مبكرًا أنّ معركة الوعي أخطر من معركة الميدان، وأنّ رصاصة الحقيقة قد تهزّ أركان منظومته أكثر من قذيفة. لذلك، استهدف الصحافيين والمراسلين والمصورين الذين واجهوا القصف بالكلمة، والموت بعدساتهم التي سجّلت الجرائم لحظة بلحظة. لكنّ ما لم يدركه العدو أنّ دماء هؤلاء الشهداء صارت حبرًا يكتب به جيل جديد من الإعلاميين الأحرار حكاية المقاومة، وأنّ الرسالة التي حاول إسكاتها قد صارت اليوم أكثر حضورًا وتأثيرًا.
في الوجدان العربي، شهداء الميادين ليسوا أسماء عابرة في سجلّ المهنة، بل رموز لنهجٍ إعلاميٍّ أخلاقيٍّ يربط بين المعرفة والموقف، بين المهنية والالتزام، بين الموضوعية والانتماء للأرض والحقّ. إنّهم الدليل على أنّ الإعلام المقاوم ليس وظيفة، بل رسالة تستمدّ مشروعيتها من دماء من ضحّوا كي تبقى الكلمة حيّة.
واليوم، في ظلّ صعود الذكاء الاصطناعي (AI) واستخدامه في الحروب الناعمة والتضليل الرقمي، تتأكد أكثر من أي وقت مضى الحاجة إلى النموذج المياديني، الذي يجمع بين الوعي النقدي والتكنولوجيا الأخلاقية، ليواجه سيل الأخبار المزيّفة بالتحليل، وليعيد للإنسان دوره في إنتاج الحقيقة. فكما واجه شهداء الميادين الرصاص بالجسد، على الجيل الجديد أن يواجه الخداع الرقمي بالعقل والضمير.
شهداء الميادين... وجوه للحقيقة لا تُنسى
تتقدّم في ذاكرة الإعلام المقاوم وجوه مضيئة صنعت مجد الكلمة بدمائها:
فرح عمر، المراسلة الشجاعة التي نقلت وجع الجنوب اللبناني فارتقت في حاصبيا وهي توثّق العدوان، لتصبح رمزًا للمرأة المقاوِمة وصوتًا للحق في وجه القصف.
ربيع معماري، المصوّر الميداني الذي رافقها حتى اللحظة الأخيرة، حمل الكاميرا كما يحمل المقاتل بندقيته، فكان عينه على الصورة وضميره على الوطن.
حسين العلي، ورفاق آخرون من الميادين في سوريا واليمن، حملوا رسالتهم في ظروف بالغة الخطورة، وأثبتوا أن الإعلام الميداني لا يقلّ شرفًا عن القتال في الخندق الأول.
إنّ دماء هؤلاء الشهداء لم تُراق عبثًا، بل أنبتت جيلًا جديدًا من الإعلاميين المؤمنين بأنّ من يحمل الكاميرا في وجه الباطل هو أيضًا مقاوم.
فهم اليوم أيقونات في مسار الوعي العربي، ومدارس في الصدق والموقف والشجاعة، ونقطة ضوء في زمن تتكاثر فيه العتمة والتزييف.
في ذكراهم نقول:
سلامٌ على من جعل من الصورة صلاة، ومن الصوت وعدًا، ومن الموقف طريقًا إلى الخلود.
ستبقى الميادين، كما أرادوها، شبكة المقاومة في وجه النسيان، ومنبر الحقيقة في وجه الزيف، وصوت كلّ من قال:
“لن تُغتال الكلمة ما دام فينا شهيد يحرسها.”